top of page

ملك الحوار

Picture2.jpg

بسم الله الرحمن الرحيم

Picture4.png

عليه توكلنا وبه نستعين، والصلاة والسلام على الأنبياء والمرسلين، وعلى سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد أفضل الصلاة وأزكى التسليم

منسوجة " الدعاء" للملك عبدالله، معلقة في متحف جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية. مبنية على صورة من تصوير فيصل بن عبدالله آل سعود

"ملك الحوار" نعم، إنّه ملكٌ الحوار، ليس قولا، لكنْ مسيرةَ عُمر وأسلوبَ حياةٍ تشهدُ لهُ بذلكَ. أرجو أنْ ترتقيَ بساطةُ طرحي هذه الليلةِ إلى سموّ وعظمةِ ومكانةِ وتلقائية ِعبدالله بن عبدالعزيز" الإنسان " هذه الصفةُ المُستمدّةُ منْ قوة إيمانهِ وصدقِ نواياه. أذكرُ عندما سُئِلت عن عبدالله بن عبدالعزيز وصفتِهِ، أجبتُ بأنّه: "الخطُّ المستقيمُ الذي يربطُ بينَ نقطتين". تواصلِي معَ الحضورِ الكريمِ هذهِ الليلةِ المباركةِ - بإذن المولى- وتوفيقهِ مدعاتُهُ قَدَرٌ سيرَّهُ الربُّ - عزّ وعلا- لي حينَ كرمني في مسيرةِ حياتي أنْ أعيشَ مراحلَ منْ عمري، أتشرفُ بِتشربّ تجاربَ في كَنَفِ " ملك الحوار"، الذي سخرَّ ما وهبَهُ الربُّ منْ قدراتٍ، وجاهٍ، وسُلطةٍ لخدمةِ الإنسانيةِ. أبدأُ بتكوينِ شخصيةِ الإنسانِ، فما سَمعْتُه منَ المغفورِ له- بإذن الله ـ خادمِ الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز منْ أحاديثَ عنْ تجاربَ مرّت به في حياتِهِ، وعنْ مواقفَ آمنَ بها وتمسّكَ بثوابتِها، على مستوى علاقتهِ مع والدهِ المؤسسِ ـ تغمدَّه المولى بواسع رحمته ـ ومع عائلتهِ وأصدقائهِ، وكذلك معنا نحنُ في صغرِنا، تضافرتْ جميعُها ليكونَ (الحوارُ)أهمَّ سماتِها وجزءًا منها.

Picture2.jpg

الملك عبدالله يحمل الكاميرا، مركز توثيق سيرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز

Picture1.jpg

أتذكرُ وأنا طفلٌ أنّ أحدَ الحواراتِ كانتْ عنْ آلة التصويرِ (الكاميرا) التي أحضرَها وأدهشتْني في حينِها، وذلك عندما شرحَ لنا الملكُ عبدالله ـ يرحمه الله ـ بإعجابٍ عن تطورِ التقنيةِ في كاميرا (البولورويد) وكيفَ تقومُ بالإظهارِ الفوريّ للصورِ وهو ما انعكسَ أثرهُ علي إلى اليومَ مُتجسدًا في هوايتي للتصويرِ.

Picture 1.jpg

وقد تشرفتٌ بإهدائهِ كتابِي شروق و غروب الذي يحتوي على لقطاتٍ حواريةٍ من خلالِ عدستي جمعْتُها وقدمْتُها له، تغمدَّهُ المولى برحمتِهِ.

غلاف وعرض كتاب شروق وغروب، تصوير فيصل بن عبدالله آل سعود - أرشيف ليان الثقافية

Picture1.jpg

 صورة الملك عبدالله وهو يدعو ربه وفوق رأسه صورة والده الملك المؤسس العظيم. تصوير فيصل بن عبدالله آل سعود - أرشيف ليان الثقافية. 

Picture 2.jpg

الحوارُ والشفافيةُ كانا سمةً وبصمةً في تعاملِهِ طوالَ حياتهِ. ومنَ القصصِ التي شدّتني ما ذكرهُ من أنَّه في يومٍ منَ الأيامِ عُرضتْ أمامه مجموعةٌ منَ الخيولِ العربيةِ الأصيلةِ جُلبتْ منَ العراق. وقد شدّت روحَه فرسٌ، ولكنَّهُ لم يكنْ يملكُ المالَ الكافيَ لشرائِها، فذهبَ إلى منزلِهِ مكسورَ الخاطرِ، ودارَ حوارٌ بينَهُ وزوجتِه، أحسَّتْ من خلاله بمشاعرِهِ الحزينةِ، فأشارتْ عليهِ بوسيلةٍ تؤمنُ له المبلغَ الذي يحتاجُهُ لشراءِ الفرسِ. كانت هذه الفرسُ أولَ الخيلِ التي اقتناها، فأسكنَها معه في منزلِهِ، وكان يحاورُها ويشاركُها طعامَ إفطارِهِ كلَّ يومٍ. ويوم السباقِ عُرضتِ الخيلُ أمام الملك عبدالعزيز- رحمه الله- ولم ينظرْ لفرسهِ أحدٌ سوى عمه سعود بن عبدالرحمن، وكان خبيراً في الخيلِ، ودارَ بينهما حوارٌ قال له فيه: "يا عبد الله، إن كان هناك سابقٌ اليومَ، فهو أنت وفرسُك".

Picture4.png

صورة الملك عبدالله وهو يحاور الفرس

عبدالله بن عبدالعزيز كان سبَّاقًا وسابِقًا لوقتِه. قد يكون أحدُ الأسبابِ في ذلك - منْ وجهةِ نظري- ما مرّ به من تجاربَ إيجابيةٍ وسلبيةٍ، فعندما كان يافعًا وقف أمام الملكِ المؤسسِ عبدالعزيز ـ تغمدَّه الله بواسع رحمته ـ ليحاورَهُ ويتحملَ عقوبةَ السجن في أقسى موقعٍ بما يُسمي (الدباب) داخلَ المصمك مٌلتزمًا بموقفهِ ومُدافِعا بشجاعةٍ عنْ وجهةِ نظرِهِ بكلّ احترامٍ أمامَ والدِهِ.  عبدالله بن عبدالعزيز كان الحوارُ عنده نابعًا من أحاسيسَ داخليةٍ كونتْها خبرةُ الأيامِ، وترسخ في قناعتهِ بأنَّه أفضلُ وسيلةٍ لحلّ النزاعاتِ والتعايشِ الإنسانيّ. ونرى تأثيرَ ذلك واضحًا خلالَ مسيرةِ حياتِهِ وقدرِهِ الذي حملَهُ منذُ صغرهِ. فالسفرُ والتعرفُ على الحضاراتِ والشعوبِ المختلفةِ ربما كانَ هو العاملَ الأهمَ في تعزيز إيمانِهِ بأنّ الانفتاحَ والحوارَ هما النّهجُ الأقدرُ للتلاقي بين نقطتين. كان مُؤمنًا بأنّ الحوارَ لا يهدفُ للإقناعِ، وإنما لتعريفِ الآخرِ بوجهةِ نظرهِ، واحترام ِالاختلافِ في الرأي والأفكارِ وتبادلِها.

1.jpg

الملك عبدالله في حواراته مع النخب اللبنانية في الستينات. مركز توثيق سيرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز

لبنانُ منْ أهم المحطاتِ التي دفعتْ إلى تبنيهِ ـ رحمه الله ـ لغةَ الحوارِ وتشجيعهِ على طرحِها بينَ الفرقاءِ بمُختلفِ دياناتِهم وطوائِفهم وخلفياتِهم الإثنيةِ والسياسيةِ والفكريةِ. أتذكرُ عندما كنا نقضي الصيفَ في لبنانَ، كيف سنحتْ لي فرصُ زياراتِ مجلسهِ ـ يرحمه الله ـ في فندقٍ على مدخلِ مصيفِ "عاليه"، حيث مجلسهُ المفتوحُ للجميعِ يرتادهُ المسلمُ السنيّ، والشيعيّ، والدرزيّ، والأرمنيّ، والمسيحيّ الكاثوليكيّ والأرثوذكس والمارونيّ، واليهوديّ، واللادينيّ، جنبًا إلى جنبٍ في حضرة أميرٍ فتحَ بصدقٍ قلبَهُ قبلَ بابِهِ وعلى مسافةٍ واحدةِ منَ الجميعِ، مُرحبًا بالإنسانِ في المقامِ الأوّلِ، ومٌكرمًا له، مُجسدًا إيمانَه بما نشأ عليه من قولِ الحقّ: " يا أيها الذين آمنو إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ". صدق الله العظيم.

كما أنّ لبنانَ منَ الخمسينيات إلى أوائلِ السبعينيات كان منارَ إشعاعٍ للثقافةِ العربيةِ، ومجمعًا للعقولِ على مُختلفِ المشَاربِ. وقد سمعْنا منه ـ يرحمه الله ـ أحاديثَ كثيرةً عنْ تجاربَ عاشها مع رجالِ الدينِ، والسياسةِ، والاقتصادِ، كما كانت له حواراتٌ معَ الأديبِ، والشاعرِ، والمفكرِ، والفنانِ، والصحفيِ. كلُّ ذلك أضافَ منظورًا أشملَ لشخصيةِ عبد الله بن عبد العزيز وعززّ تقبلَه للآخرِ، مُحترِمًا ومُقدّرًا إنسانيةَ الإنسانِ.

Picture1 slide 8.jpg

فيديو بمجلس الملك عبدالله بالطائف في التسعينات وهو يتحدث إلى المواطنين عن حلمه بإقامة مدينة علمية بالطائف

ما بين نشأتِهِ قريبًا من ديوانِ والدهِ المؤسسِ العظيمِ، وبينَ تعاملهِ معَ رجالاتٍ مثلوا فكرَ وثقافاتٍ متنوعةٍ، من وزراءٍ ومستشارين وزوارٍ ومنْ عامةِ النَّاسِ وخاصَّتِهم، وتجاربَ عاشها في أسفارِه، واختلاطهِ بشخصياتٍ من شتى أنحاءِ العالمِ، اتسعتْ آفاقُ فكرِ الملكِ عبدالله ليصبحَ الحوارُ وتقبلُ الآخرِ طبيعةً لا تطبُع وهنا بيتُ القصيدِ في حوارٍبمجلسهِ في الطائفِ بعدما تحملَّ المسؤوليةَ مُعبرًا عنْ حلمٍ ظل يرجو تحقيقَهُ، وأسرّ به إلى أخيه الملكِ فهدٍ بن عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ عندما كان وليًّا للعهد، وهو بناءُ مدينةٍ علميةٍ بالطائف، بجوارِ أقدسِ بقاعِ الأرضِ حيثُ نزلتْ كلمةُ " اقرأ "، أّولُ وأعظمُ كلمةٍ أسستْ نهجَ حياةٍ للإنسانيةِ . فمن هذا المشروعِ استقى تكوينَ رسالتِه و تشكيلَ أبعادِها، وتحديدَ أهدافِها للاستثمارِ في العقول. لقدْ جاء اختيارُه للموقعِ في الطائفِ ليجمعَ المسلمَ وغيرَ المسلمِ، ويعطي بذلك ميزةً فريدةً لاستقطابِ العقولِ المسلمةِ لتكونَ قريبةً من مكةَ المكرمة. ونرى هنا كيفَ أنّه وضع بداياتِ بصمتهِ على إحياءِ مفهومِ الحوارِ وتطبيقِهِ بأعلى وأرقى مستوى منْ خلال مشروعٍ مُستدامٍ. كلُّ هذا كان بدايةً لما يؤمنُ به و بما تحققَ لاحقًا على أرضِ الواقعِ في تطبيقِ بعضٍ مما كان يَحلمُ به، وتجسدَّ في جامعةِ الملكِ عبد الله للعلومِ والتقنيةِ (كاوست) في قريةِ (ثول) المطلةِ على ساحلِ البحرِ الأحمر. وبهذا المشروعِ أصّل رسالتَهُ النابعةَ منْ إيمانِهِ بوضعِ بصمةٍ دائمةٍ سيسجلُها التاريخُ رسالةً للإنسانيةِ نبعتْ من أرضِ الحرمين الشريفين لتبقى وتدومَ.

جامعةُ الملكِ عبدالله للعلوم والتقنية " كاوست " هي التجسيدُ الحيُّ لحوارِ العقولِ البنَّاء المُثمرِ والمفيدِ على أعلى المستوياتِ، فهي صرحٌ قائمٌ ممتدٌّ لحوارِ العقولِ بينَ جميعِ دولِ العالمِ للاستثمارِ المُستدَام في أهمّ مُقوماتِ الحياةِ الإنسانيةِ : الماءِ، والغذاءِ، والطاقةِ، والبيئةِ؛ لإيجادِ الحلولِ لها وتأمينِ مُستقبلِ الإنسانيةِ. بما يحققُ لها الرخاءَ في حياتِها.

8.1.jpg
8.2.jpg

پوستر جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية للفنان المغربي يوسف الدويب، مؤطره بصور مراحل تأسيس الجامعة من البداية إلى إفتتاحها تصوير فيصل بن عبدالله آل سعود، وكذلك صور أول دفعة تتخرج من الجامعة -أرشيف ليان الثقافية

فيديو قصيدة " إروها سيدي" بمناسبة إفتتاح الجامعة

Picture4.png

خط ّ حلمَهُ الذي كانَ يعيشه برسالةٍ تنبعُ من إيمانه بأهدافه، ورسم استراتيجياتِه من سمو تلك الأهداف ليطبقها على أرض الواقع، بدءًا بالحوار محليًّا في عام ٢٠٠٣م مُنشِئا (مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني) الذي أُسس للتواصلِ و الوصولِ إلى المشترك بين مُختلف المناطق وفئات المجتمع، والتأكيد على أن التنوعَ ثروةٌ، و الاختلافَ لا يجبُ أن يفضيَ إلى خلاف، بل سيكونُ دافعا للتغيير للأفضل. وأقتطفُ من كلمتِه - يرحمه الله - إبانَ ولايتهِ للعهد، للأخوة المواطنين بمناسبة إعلانِ قيام ِ مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني التي قال فيها: " إن آدابَ الحوارِ يجبُ أن تنطلقَ منْ منهجِ السلفِ الصالحِ الذي يعتنقُهُ شعبُ المملكةِ. وقد كان السلفُ الصالحُ – عليهم رضوانُ الله - لا يُجادلون إلا بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة ِ، ويعملون بتوجيه ِ سيدِنا ونبينا محمدٍ – عليه أفضلُ الصلاة والتسليم - :" من كان يؤمنُ بالله و اليوم الآخر فليقلْ خيرا أو ليصمتْ "، كما كانوا يعدون سبّ المسلمِ فسوقا وقتالَه كفرا. هذا هو الطريقُ السليمُ للحوارِ. وإنني على ثقة أنّ علماءَ هذا الوطن ومفكريه ومثقفيه، هم من يسلكُ هذا الطريقَ المستقيمَ، وأنهم يدركون كما أدركَ أنّ المملكةَ قيادةً وشعبًا لن ترضى أنْ تتحولَ حُريةُ الحوارِ إلى مُهاترةٍ بذيئةٍ أو تنابزٍ بالألقابِ أو تهجمٍ على رموزِ الأمةِ المضيئةِ و علمائِنا الأفاضلِ. إنّ هذا الوطنَ، الذي يتشرفُ بخدمةِ الحرمين الشريفين الذي تهوي إليه قلوبُ المسلمين من كلّ مكانٍ، لا يمكنُ أن يضمّ فكرًا يخرجُ قيدَ شعرةٍ عنْ ثوابتِ العقيدةِ الإسلاميةِ. كما أنّه لنْ يقبلَ فكرًا يُحرِفُ تعاليم الإسلام، ويتخذُ شعاراتٍ خادعةٍ لتبريرِ الأهدافِ الشريرةِ في تكفيرِ المسلمين وإرهابِهم، وأنَّ شعبَنا السعودي لا يرضى بديلًا عنِ الوسطيةِ المعتدلةِ التي ترفضُ الغلوَّ والتعصبَ بقدرِ ما ترفضُ الانحلالَ والإباحيةَ ".وقد كان لي شرفُ التعاملِ مع رسالتهِ ـ يرحمه الله ـ عندما كنتُ أعملُ في الحرس الوطني بالقطاعِ الغربي، و تقدمت في عام ١٤١٨هـ باسمِ منسوبيه إلى مَقامِ الرئاسةِ العامةِ للحرس الوطني، بمقترحٍ يُساهمُ فيه القطاعُ الغربي- بحكم موقعه وما أُوكل إليه منْ دورٍ- في خدمة حُجاج بيت الله و زوارِ الأماكنِ المقدسةِ، وهو إقامة مركز يخدمُ رسالةَ (مهرجان الجنادرية) وأهدافَهُ خاصةً الثقافية مِنْها. وأشرتُ إلى بعضِ مَباني الرئاسة الحديثة التي لم تكتملْ حينَها كالمكتبةِ والأرضِ المجاورة لها، لتكون مركزًا للفكرِ والحوارِ يُغذي رسالةَ الشقّ الثقافي للمهرجان. جاء هذا التصورُ بحكم الموقعِ في محافظة جدة بالقرب منَ الأماكن المقدسة التي يؤمُها الناسُ منْ جميعِ أصقاعِ العالم لتأدية شعائرِهم تلبيةً لدعوةِ الله لهم ؛ وهوما سيمكننا من استقطابِ المفكرين والعلماء؛ للتحاورِ والتشاورِ فيما يتعلقُ بالموضوعِ الذي يطرحُهُ المهرجانُ. وكان أملُنا أن تثريَ هذه الإضافةُ المواضيعَ التي تُطرَحُ، لتُدرسَ وتُعطَى الوقتَ الكافيَ لتعُمّ الفائدةُ المرجوةُ منها. وبمرورِ الوقتِ ومعَ حُسْنِ وكَرمِ الضيافةِ التي يُعرَفُ بها الحرسُ الوطنيُّ، لو أنُجزَ هذا المقرّ لأصبحَ مقصدًا للفكر والمفكرين ومركزًا للثقافة والمثقفين.

الرسالة المقدمة للملك عبدالله من الحرس الوطني بالقطاع الغربي، بمقترح إنشاء مركز يخدم رسالة مهرجان الجنادرية للحوار

وهنا أذكرُ مفارقةً مُهمةً عشْتُها معَ المغفورِ لهُ ـ بإذن الله ـ الملكِ عبدالله بن عبدالعزيز. ففي يومٍ منَ الأيامِ وأنا أعملُ في رئاسةِ الاستخباراتِ العامةِ، حيث يوجدُ مركزُ الدراساتِ وهو منَ المراكزِ التي نعتزُ ونفخرُ بها، والكثيرُ لا يعلمُ أنّ المركزَ يُدارُ منْ قبلْ كوادرَ نسائية ٍ سعوديةٍ. ومن مهامهِ القيامُ بإعداد الاستبياناتِ لجمعِ المعلوماتِ في مجالاتٍ مختلفةٍ. وقد قمنا بتحضيرِ دراسةٍ لتطويرِ مفهومِ استطلاعِ الرأي وتأسيسِ مركزٍ مُتقدمٍ شراكةً بينَ ( مركزِالدراساتِ ) و (مركز الملك عبد العزيز للحوارِ الوطني). وفي ليلةٍ من ليالي العشرِ الأواخرِ منْ رمضانَ المباركِ، وهو جالسٌ يقرأُ القرآنَ في غرفتهِ المُطلةِ على المسجدِ الحرامِ، استأذنتُ للدخولِ عليه للحديثِ معه عنْ مُقترحِ المركزِ المُتقدمِ لاستطلاعِ الرُؤى. جلستُ أمامه- يرحمه الله - وعرضتُ عليه فكرةَ المركزِ؛ لنطورَ مفهومَ الحصولِ على المعلوماتِ الصحيحةِ وتحليلـِها ليستفيدَ منها صاحبُ القرارِ فيما يتعلقُ بأوضاعِ المجتمعِ، والوزاراتِ الخدميةِ وما تؤديهِ من دورٍ في المناطقِ المختلفةِ، وقناعةُ المواطنِ بما تقومُ به، وكذلك دورُ رسالةِ مركزِ الملكِ عبد العزيز للحوار الوطني، وتأثيرُها على المجتمع. كان ـ يرحمه الله ـ مُصغيا كعادتهِ، إلى أنْ أنهيتُ عرْضي، فإذا به ينظرُ إليّ بعينِ غضبٍ ويقولُ بصوتٍ مُجلجِل: "هل تريدُني أنْ أتجسسَ على شعبي ؟ الحوار في مكانةٍ عاليةٍ، وأنتم دورُكم دونَ ذلك فلا يختلطْ الموضوعُ عليك وتستغلَ رسالةَ الحوارِ. لنْ أرضى للحوارِ سوى المكانةِ التي آمنتُ بها له". وهنا نرى أنّ مكانةَ الحوار في نفسِهِ- يرحمه الله ـ تنعكسُ على مكانةِ المواطنِ، وهي رفيعةُ المقامِ في ميزانِ تقديرهِ.هكذا كانَ ـ يرحمه الله ـ صادقًا أمينًا ومخلصًا لرسالتهِ، وللحوارِ. وقدَرِي معه ـ يرحمه الله ـ كانت مصادفةً أخرى، في حجّ عام ١٤٢٦هـ / ٢٠٠٥م، وذلك بعدَ كلمتهِ التاريخيةِ في جُموعِ المسلمين بمشعرِ منى، حيث دُعي إليها قياداتُ العالمِ الإسلاميّ للاجتماعِ في مكةَ المكرمةِ، ووجهَني بعد إلقائهِ الخطابِ قائًلا: "اتصلْ برفيقِك حتى يبدأ ويهتمَ بترتيبِ دعوتي ". وكانَ ـ يرحمه الله ـ يعني (البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلو) الأمين العام لمنظمةِ التعاونِ الإسلامي آنذاك. اتصلتُ بمعاليهِ وكان في إسطنبول وأرسلتُ له نسخةً منَ الكلمةِ، ورحبَ ترحيبًا حارًا ملبيًا وطالبًا التوفيقَ لخادمِ الحرمين الشريفين على هذه الدعوةِ. وكان من أهداف دعوة الملك عبدالله توصيل رسالة الحوار إلى قيادات العالم الإسلامي، و نرى ذلك جلياً في ( بلاغ مكة ) الذي يُسطرُ " الحضارة الإسلامية التي هي جزءٌ لا يتجزأُ منَ الحضارةِ الإنسانيةِ، تقومُ على قيم الحوارِ والوسطيةِ والعدلِ والبرّ والتسامحِ لكونِها قيمًا إنسانيةً راقيةً في مُقابلِ التعصبِ والانغلاقِ والاستبدادِ والإقصاءِ؛ لذلك فإنَّ منَ المهم تعميقُ هذه القيمِ الساميةِ في خطابِنا الإسلاميّ داخلَ مجتمعاتِنا وخارجَها ". هذا وقد رسختْ توصياتُ العملِ العشري. كما أكدّ البيانُ الختامي أهميةَ الحوارِ حينَ ذكرَ " أنّ الإسلامَ هو دينُ الوسطيّةِ، يرفض الغلوّ والتطرفَ والانغلاقَ، وأكدّ في هذا الصددِ "أهميةَ التصدي للفكرِ المنحرفِ بكافةِ الوسائلِ المتاحةِ، إلى جانبِ تطويرِ المناهجِ الدراسيةِ بما يرسخُ القيمَ الإسلاميةِ في مجالاتِ التفاهمِ والتسامحِ والحوارِ والتعدديةِ ". أكدّ المؤتمرُ على أنّ "حوار الحضاراتِ المبني على الاحترامِ والفهمِ المتبادلين والمساوةِ بين الشعوب أمرٌ ضروريٌ لبناءِعالمٍ يسودهُ التسامحُ والتعاونُ والسلامُ والثقةُ بين الأممِ". كما دعا المؤتمر إلى "مكافحةِ التطرفِ المُتسترِ بالدينِ والمذهبِ، وعدم تكفير أتباع المذاهبِ الإسلاميةِ "، وأكدّ على "تعميق الحوارِ بينها، وتعزيزِ الاعتدالِ والوسطيةِ والتسامحِ"، ونددَ "بالجُرأة على الفتوى ممن ليس أهلًا لها". وأكدَّ المؤتمرُ على " أهميةِ إصلاحِ مجْمع الفقهِ الإسلامي ليكونَ مرجعيةً فقهيةً للأمةِ الإسلاميةِ ".

unknown 2.jpeg
12.jpg

كرسي الملك عبدالله في مصلاه بقصر الصفا بمكة المكرمة، وهو يصلي وبجانبه الأمير خالد الفيصل، تصوير فيصل بن عبدالله آل سعود -أرشيف ليان الثقافية

Picture4.png

بعدَ جمعِ الكلمةِ، ومحاولةِ توحيدِ الصّفِ حولَ بيتِ الله الحرامِ، حيثُ كانَ ـ يرحمه المولى ويحسنُ سُكناه - يتأملُ دائماً ويقولُ وهو يرى جُموعَ المسلمين حولَ الكعبةِ المُشرفةِ: "إذا أشكلَ على الإنسانِ شيءٌ، ورأى هذه الجموعَ كتفا بكتفٍ حول بيتِ الله العتيقِ بشكلٍ دائري مُتكاملٍ، مؤمنةً متعبدةً بحوارِها مع خالقِها، فلا بد أنَّ هناك شيئًا عظيمًا يجمعُهم ويوحدُ كلمتَهم لحلّ مشاكلِهم ". وهنا أذكرُ مبادرَته التاريخيةَ بجمعِ الإخوةِ الفلسطينيين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وإسماعيل هنيّة رئيسِ منظمةِ حماس في مكةَ المكرمة للحوارِ والتصالحِ، وقد وقفَ بينَهما في قصر الصفا مُشيرًا بيده نحو الكعبة الشريفة قائلا لهما "إخواني إذا أشكل عليكم شيءٌ أو اعترض طريقَ حواركم، فكلُّ ما أطلبه منكم أن تراقبوا الله في أنفسكم وتنظروا من خلال هذه النافذة إلى بيت الله الحرام وتعتبروا بأن من جمع هذه الأمةَ بصفوف موحدة في هذا المكان غيرُ عاجزٍ عن توحيد أهدافِكم ورسالتِكم وجمعِ كلمتكم".

لن أتركَ قضيتَنا الأمَّ وهي القضية الفلسطينية دون الحديث عن ما كان لها في قلب عبدالله بن عبد العزيز ووجدانه، فقد كان مؤتمر القمة عام ٢٠٠٢ م في بيروت مُنعطفًا مهمًا في مسيرةِ القضية. فقد أعاد التاريخ نفَسه بحكمةِ مواقفِ المملكة العربية السعودية بعدما قدم الملك فهد بن عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ مبادرته في مؤتمر قمة فاس عام ١٩٨١م، نرى مبادرة السلام العربية التي أعلن عنها الملكُ عبدالله، مُحاورًا جميعَ رؤساء الدول العربية لإقناعهم بتبنيها وموجهًا حديثه إلى الشعب الإسرائيلي قائلاً: "اسمحوا لي هنا أن أتوجه بحديثي مباشرة إلى شعب إسرائيل لأقول له : إن تجربة العنف عبر أكثر من خمسين عامًا لم تنتج سوى المزيدِ منْ الدمار وأنّ المجتمع الإسرائيلي لا يزالُ أبعدَ ما يكون عنِ الأمنِ والسلامِ رغم التفوق العسكري ورغم محاولات القهر والإذلال. إن السلام ينبع من القلوب والعقول لا من فوهات المدافع ونيران الصواريخ، لقد آن الأوان لكي تراهنَ إسرائيلُ على السلام بعد أن راهنت على الحرب خلال العقود الماضية بدون جدوى، ولكن يجب أن يكون مفهومًا لإسرائيل وللعالم كلّه أنّ السلام والاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة نقيضان لا يجتمعان. وأضيف قائًلا لشعب إسرائيل: إنه إذا تخلت حكومتُه عن أسلوبِ القوةِ والقمعِ ورضيتْ بالسلام الحقيقي لن نتردد في القبول بحق الشعب الإسرائيلي أن يعيش في أمن مع شعوب المنطقة. إننا نؤمن بحمل السلاح دفاعًا عنِ النفس وردعًا للعدوان، ولكننا نؤمن بالسلام إذا جاء قائمًا على العدل والإنصاف مُنهيًا للعدوان وفي ظلّ السلام الحقيقي وحده يمكن أن تقوم علاقات طبيعية بين شعوب المنطقة لتحل التنمية بدلاً منَ الحروب والدمار. إخواني الكرام، انطلاقًا مما تقدم ومن مكاني بينكم ومعكم وبكم بعد الله جل جلاله اقترحُ أن تتقدمَ الجامعةُ العربيةُ بمشروعٍ عربي جماعي واضح إلى مجلس الأمن، مشروعٍ يقومُ على أمرين أساسيين العلاقاتِ الطبيعيةِ والأمنِ لإسرائيل مقابلَ الانسحابِ الكاملِ من جميع الأراضي العربية المحتلةِ والاعترافِ بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين، وإنني أناشدُ في الوقتِ نفسهِ جميعَ الدولِ الصديقةِ في كلّ مكانٍ منَ العالمِ أن تقفَ بشرف وإنسانية لدعم هذا التوجه الذي يستهدفُ إزاحةَ خطرِ الحربِ المُدمرةِ وتحقيقِ السلامِ لجميعِ شعوبِ المنطقةِ بلا استثناءٍ.

WhatsApp Image 2020-04-03 at 20.32.33.jpeg

فيديو كلمة الملك عبدالله في مؤتمر القمة العربية بيروت ٢٠٠٢م.  مركز توثيق سيرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز

لا أنسى هذا المشروع العالمي لحوار الثقافات والتعرف على الآخر والتعريف بعظمة ومكانة قبلة المسلمين في قلوب العالمين. إن دراسة " وقف اقرأ " أو " المدينة المتكاملة" الذي تقدمت به (مجموعة الأغر)، كان وراءها رغباتُ وحلمُ عبدالله بن عبدالعزيز. ففي يوم من الأيام تشرفتُ بصحبةِ المغفور له - بإذن الله - الأميرِ ماجد بن عبدالعزيز أميرِ منطقة مكة المكرمة آنذاك عندما دشن وافتتح مبنى معرض الحرمين الشريفين في حي أمّ الجود بمكة المكرمة، وفي المساء حضرتُ جلسةَ الملك عبدالله ـ يرحمه المولى بواسع رحمته ـ فنظر إلي بفراستهِ وصدقِ أحاسيسهِ قائلاً: "أراك فرحًا مستبشرًا الليلة"، قلت: "سيدي وجودُنا معكم وفي معيتِكم هو سرُّ السعادة للجميع"، قال: "لا، هناك شيءٌ أعمقٌ من ذلك". فأخبرته عن زيارتي لمعرض الحرمين وأن أكثر ما سرني عندما رأيتُ الشيخ محمد السبيل ـ يرحمه الله ـ وهو يستعرضُ بالشرحِ آثارَ ومقتنياتِ تاريخِ الحرمين الشريفين. نظر إلي قائًلا" :تحدثت عن هذا المعرضِ المهمِ، لكن الأهمَ من ذلك إذا كان هذا المعرضُ كما ذكرت يتحدثُ عن تاريخِ وآثارِ الحرمين، مكةَ المكرمة، والمدينةِ المنورة، فمكانتهما أكبرُ من وجوده في ذلك الموقعِ، بل يجبُ أن يكونَ بارزًا على مدخل مكة المكرمة يزوره المسلم وغير المسلم".هذه رسالةُ عبدالله بن عبدالعزيز الذي رأى في الفنونِ والثقافةِ والآثارِ لغةَ حوارٍ وتواصلٍ مع الآخرِ تسعى إلى التعارفِ والتعريفِ برسالتِنا وحضارتِنا وثقافتِنا. فما كان منّا (مجموعة الأغر)، إلا الاستلهامَ من رغباتهِ بتقديمِ هذا المشروعِ الذي بدأ بفكرةِ بناءِ أكبرِ متحفٍ إسلاميّ في الشميسي، مُمثلا بقرص شمسٍ يحتوي على مقتنياتٍ من مكةَ المكرمة والمدينةِ المنورة وبينهما القدس الشريف، مُحاطًا بستة وخمسين جناحًا، تشعُ منها حضارةُ وثقافةُ كلّ بلدٍ إسلاميّ، وتصمَّم وتعدُّ وتجهزُ من قبل كلّ دولةِ لتعرضَ مقتنياتِها الإسلاميةِ والحضاريةِ.تطورتِ الفكرةُ وقدمَ الدراسةَ الأميرُ عبدالمجيد بن عبدالعزيز أميرُمنطقة مكةَ المكرمة آنذاك للملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ يرحمهما الله ـ كمشروع مدينةٍ متكاملةٍ بمناسبةِ اختيار مكة َعاصمةً للثقافةِ الإسلاميةِ، لِتسهمَ أولًا، في جمعِ الكلمةِ والتعريفِ بالحضارةِ والثقافةِ الإسلاميةِ للمسلمِ، وللتعرفِ ثانيًا على عظمةِ رسالة الإسلام التي وحدتْ هذه الأمةَ بالرغم منِ اختلاف أعراقِها وحضاراتِها ولغاتِها، وكذلك لغيرِ المسلمِ ليتعرفَ ويلمسَ ويحاورَ، خاصةً وأنَّ في هذا الموقعِ كان "صلحُ الحديبيةِ" أعظمَ حوارٍ دارَ في تاريخِنا الإسلامي.

ملخص "مشروع الشميسي"

 أرشيف مجموعة الأغر و صورة مع الملك عبدالله لأعضاء مجموعة الأغر عند تقديم "مشروع الشميسي". و فيديو " مشروع الشميسي"

15.2_Moment.jpg
pic 1.png
16.jpg

مجسم إتفاقية ترسيم الحدود مع اليمن، مركز توثيق سيرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز

لا بدّ لي من ذكرِ حدثٍ تكررَ مرارًا، فقد لاحظتُ والكثيرُ منَ الإخوانِ أنّه بعدَ كلّ وليمةٍ لضيفٍ من ضيوفِ الدولةِ في منزلهِ بمدينةِ جدةَ حول المسبح في الدور الأول، وبعد انتهائه - يرحمه الله ـ منَ الطعام يتناولُ فنجانا منَ القهوة هو وضيوفه مارًّا بالجلسة الصغيرة التي كان يجلسُ بها كل ليلةٍ بجانب المسبح، ويقفُ مع ضيوفه أمام مُجسمٍ لاتفاقية ترسيمِ الحدود مع اليمن الشقيق ويشرحها لهم. وهنا نرى اهتمامَهُ بدور الحوار الذي كان نتيجته اتفاقية دولية أنهت خلافاتِ سنين طوالٍ. فالحوارُ لغةٌ نادى بها دينُهُ، وتنَادى بها إنسانُ وطنهِ.

في إحدى زياراتِه الخارجيةِ كانت هناك رسائلُ تنعكسُ فيها روحُ الحوارِ الذي كان سمةً واضحةً في وجودِ وتركيبةِ ولغةِ عبدالله بن عبدالعزيزالعفويةِ . كنا في معيته ـ يرحمه الله ـ خلالَ رحلتِهِ حول العالم في عام ١٩٩٨م، وفي مقابلتِه مع الرئيس زيمين رئيس الصين (العظيمة ( كما كان - يرحمه الله - يقولها دائماً وهو يحدثه قائًلا: "يا سموّ الأمير أنتم لديكم أعظمُ قوةً وهي البترول"، وأراد أنْ يسترسلَ، فرفع الملكُ عبدالله يدَّه قائًلا ":فخامة الرئيس، معذرةً عنِ المقاطعةِ، لدينا شيئان أهمُ منَ البترول، هما مكةُ المكرمة والمدينةُ المنورة، البترولُ مهمٌ كوسيلةٍ، ولكن ثروتَنا الحقيقيةَ والدائمةَ،هي في تشريفِنا بخدمةِ الحرمين الشريفين، قبلةِ المسلمين ومثوى الرسولِ الأمينِ. فإذا كنتم بليوناً ومائتي مليون نسمة، فنحن بليون وخمسمائة مليون مسلم ".رحمك الله ، يامنْ خدم الحرمين الشريفين، وحملَ أمانةَ توصيلِ رسالةِ الإسلامِ السمحةِ، ولا أنسى في مدينةِ شيانغ أقدمِ مساجدِ الصينِ الذي أُسس على يدي اثنين من الصحابةِ - رضي الله عنهما - عندما حملَا ووصلَا للصين هذا التنزيلِ العظيمِ الكريمِ سنة خمسين من الهجرة. فقد تواصلتْ مع مسلمي الصين، وأنت تستفسرُ عن أحوالهم وتحاورُهم في ذلك المسجدِ القديمِ قائلاً : " إخواني لقد منّ الله علينا جميعًا بهذا الدينِ الحنيفِ وأوصلُهُ على يدّ أسلافنِا رسالةً تدعو إلى السلام والخير والتسامح، فأنتم من يحملُ هذه الرسالةَ في بلدٍ احتواكم، وها أنتم بحمدهِ وتوفيقهِ تنعمون بوحدتكمِ وتكاتفِكم، فمهما كانت الظروفُ يجبُ أن تحترموا قوانينَ البلدِ الذي تعيشون فيه، وأنْ تسعوا إلى التمسكِ بمقاصدِ ومبادئ رسالةِ دينِنا الحنيفِ الداعي إلى التعايشِ والسلامِ ".

17.jpeg

صورة مقابلة الملك عبدالله في مسجد شيان مع مسلمي الصين ١٩٩٨م. تصوير فيصل بن عبدالله ال سعود. أرشيف ليان الثقافية

منَ المواقفِ التي لا أنساها ذلك اليوم في مؤتمرِ مكةَ في عام ٢٠١٢م ورؤساءُ الدولِ الإسلاميةِ متوجهين إلى وليمةِ العشاءِ بقصرِ الضيافةِ بمشعرِ منى، وهو ـ يرحمه الله ـ يتقدمُ ضيوفَه مُمسكًا يدّ أحمدي نجاد الرئيس الإيراني، مُحاورا ومُتقبلا للآخر. سألته لاحقًا :" سيدي لماذا احتفيت بأحمدي نجاد؟" نظر إلي الملك وقال: " مُجبرٌ أخاك لا بطل، نحاول بناء علاقات أخوة واحترام معه ومع من قبله، مثل: رفسنجاني وخاتمي، لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم كأمة إسلامية مهما كان الاختلاف، في وجه من يريد بها الشرَّ وزرعَ الفرقةِ بينها. فنيتُنا صادقةٌ لوجههِ تعالى، وهذه مسؤوليُتنا وواجبُنا، والله أعلمُ بالنوايا."

الملك عبدالله بن عبدالعزيز ممسكا بيدي قابوس ونجاد خلال دخولهم الى الجلسة الافتتاحية  مجلس

صورة الملك عبدالله وأحمدي نجاد رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية مؤتمر مكة عام ٢٠١٢م.  مركز توثيق سيرة الملك عبدالله بن عبد العزيز

لا بدّ منْ ذكر معنى الحوار الحقيقي الذي يلمسُ الروحَ بين القائدِ ورعيتِه، وهنا لا أعتقدُ أن أحدًا ينسي تلك الصورَ المؤثرةَ وهو يحاورُ مواطنيهِ مُتفقدًا أحوالَهم مُتلمسًا حاجاتِهم بزيارتِه لبيوتِهم في أفقرِ حاراتِ عاصمتِه، ليرى بنفسهِ ويواجهُ الواقعَ الذي حاولَ أنْ يحسنَه. كذلك لا أحدَ ينسى كرسي عبدالله بن عبدالعزيز الإنسانِ، الذي أجلس عليه مواطنيه مُقابلاً لكرسيه في ديوانه ليسمعَ منهم احتياجاتِهم أو مشاكلِهم ويحاورَهم، ولا أحدَ ينسي رفقـَه ومحبتَه واحترامَه حين قدمَ كأسَ ماءٍ لأحدِ مراجعيه بعد انفعالِه ليهدئَهُ، ويُكمِلَ حوارَه معه. وكم منَ القصص سمعناها منذ بدايةِ عملهِ بالدولةِ وبحكم مسؤولياته في الحرس الوطني ونقاشاتِهِ وحواراتِهِ مع أفرادِ باديةِ الجزيرةِ العربيةِ ، وكم منَ الحواراتِ مع تلك القبائلِ أنقذَ بها الكثير منَ الأرواحِ، ونزع فتيلَ حروبٍ قبليةٍ مع رؤساءِ وشيوخ وأعيانِ دولٍ مجاورةٍ .

PHOTO-2020-01-14-17-40-256.jpg
PHOTO-2020-01-14-17-40-25.jpg

وجديرُ بالذكرِ تبني الملكِ عبدالله لمبادرةِ مُكافحةِ الإرهابِ واهتمامهِ بهذا الشقّ، وأنّ النجاحَ لابدّ أن يأتيَ منْ خلالِ جمعِ المعلوماتِ والمشاركةِ الفعليةِ بين دول العالم بتحليلها والتحاور فيما بينها للوصولِ إلى الحلولِ العمليةِ لتفادي كوارثِ الإرهابِ. لقد كان صادقًا وأمينًا عندما دعى دول العالم عام ٢٠٠٥م للمؤتمرِ الدّوليّ للإرهاب بالرياض وفي كلمته قال ـ يرحمه الله ـ‎ : " يسرني أنْ شكرَكم على تلبيةِ الدعوةِ لهذا اللقاءِ التاريخي وأنْ أرحبَ بكم باسمِ أخي خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله- والشعبِ السعوديّ في المملكة العربية السعودية، موطنِ الإسلامِ والسلامِ حيث انطلقتِ الدعوةُ إلى المساواةِ والصداقةِ بينَ البشر أجمعين في قوله تعالى: ( يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ). إنّ هذه الدعوةِ الربانيةِ الخالدةِ هي التي تمثلُ روحَ الإسلام الحقيقي دينِ الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، ولا تمثلهُ الشعاراتُ الزائفةُ التي يطلقُها الخارجون على الإسلامِ والمسلمين من كهوفِ الظلامِ ليتلقفَها أعداءُ الإسلامِ ويصنعوا منها صورةً مشوهةً أبعدَ ما تكونُ عنِ الإسلام. إن نبيَّ الإسلام- صلى الله عليه وسلم - هو نبيُّ الرحمةِ والإسلامِ، هو دينُ الرحمةِ ولا يمكنُ أن تجتمعَ الرحمةُ والإرهابُ في عقلٍ واحدٍ أو قلبٍ واحدٍ أو بيتٍ واحدٍ. أيُّها الأخوة والأصدقاء.. لقد كانت المملكة العربية السعودية من أولى الدولِ التي عانت منَ الإرهابِ وحذرتْ من خطرهِ وقاومتْهُ بكلّ شدةِ على المستوى المحلىّ والإقليميّ والدوليّ.. ونحنُ الآن في حربٍ مع الإرهابِ ومن يدعمُهُ أو يبررُ له، وسوف نستمرُ في ذلك - بعونِ الله - حتى القضاءِ على هذا الشرِّ. إننا سنضعُ تجربتَنا في مقاومةِ الإرهابِ أمام أنظارِ مؤتمرِكم، كما أننا نتطلعُ إلى الاستفادةِ من تجارِبكم في هذا المجالِ، ولا شكّ في أن تجاربَنا المشتركةَ سوف تكونُ عونًا لنا جميعًا بعد اللهِ في معركتِنا ضدّ الإرهاب. إنَّ أملى كبيرٌ في أنّ هذا المؤتمرَ سوف يبدأ صفحةً جديدةً منَ التعاونِ الدوليّ الفعَّال لإنشاءِ مجتمعِ دوليّ خالٍ منَ الإرهاب وفى هذا الجانبِ أدعو جميعَ الدولِ إلى إقامة مركز دوليّ لمكافحةِ الإرهاب يكون العاملون فيه منَ المتخصصين في هذا المجالِ، والهدفُ من ذلك تبادلُ وتمريرُ المعلوماتِ بشكلٍ فورى يتفقُ مع سرعةِ الأحداثِ وتجنبِها- إن شاء الله –قبلَ وقوعِها. أيُّها الأخوةُ والأصدقاءُ، إنني أعرفُ أن خــطرَ الارهــابِ لا يمكنُ أنْ يزولَ بينَ يومٍ وليلةٍ، وأن حربَنا ضدّ الإرهابِ ستكونُ مريرةً وطويلةً، وأنّ الإرهابَ يزدادُ شراسةً وعنفًا كلما ضاقَ الخناقُ عليه إلا أنني واثقٌ بالله تمامًا منَ النتيجةِ النهائيةِ، وهي انتصارُ قوى المحبةِ والتسامحِ والسّلام على قوى الحقدِ والتطرفِ والإجرامِ بعونهِ تعالى، إنّه نعمَ المولى ونعمَ النصير".

20.jpeg

هذا هو عبدالله بن عبدالعزيز الذي آمنَ بالحوارِ وسعى ليجعلَه علامةً فارقةً في حياتهِ وفي حكمهِ وتاريخِ مسيرته. فاللهُ أعلمُ إذا كان قدري قد كتبَ لي أن أتشرفَ بأنْ أكونَ جزءً في مسيرةِ رسالةِ حوارِ عبد الله بن عبد العزيز، وهنا حدثٌ شرفني به ـ يرحمه الله ويسكنه فسيح جنانه ـ حين كرمَّني كعادتِه ومنحني الثقةَ، وذلك عندما استدعاني في يومٍ منَ الأيام إلى مقرِّ إقامته في منطقة " بسكورة بالدار البيضاء " في المغرب الشقيق، وأسرّ لي قائلا: " فيصل، سأخبرُك بشيءٍ أفكر فيه وأعتزم تنفيذَه- بتوفيقِ الله وقدرتِه وتمكينه- فقد قررتُ أن أحمل رسالةَ الحوارِ إلى هيئة الأمم المتحدة، وأن نؤسسَ مركزًا عالميًا للحوار" لم أتمالكْ نفسي، وقلت له: " سيدي، إن الحوار رسالتك حملتها طوال حياتك، ونبعتْ من صدقِ وإيمانٍ برسالةٍ إنسانيةٍ للعالمين، فأنت أقربُ منْ يوصلُها ويمّكن التواصل بها تحت مظلةٍ أمميةٍ وفي إطارِ عالمي يجمعُ ويوحدُ كلمةَ الحقّ والعدلِ والمساواةِ.كانت فرحتي لا توصفُ وعدتُ إلى الفندقِ وأنا أفكرُ بما يحملُهُ هذا القائدُ المسلمُ بكلّ بأمانةٍ وصدقٍ تجاه أخيهِ الإنسانِ برسالةٍ عنوانها (الحوار). لم يتوقفْ تفكيري وكتبتُ مشاعرَ فخرِ واعتزازِ حال عودتي إلى الفندقِ وأرسلتُها إلى السكرتارية بالقصرِ وأستلمَها الأخُ خالدُ العيسى، وبعد ساعاتٍ اتصل بي خالدُ العيسى وسألني: "ماذا كتبتْ؟ لقدْ غضبَ سيدي، وأقترحُ أنْ تأتيَ غدًا لتحدثَّهُ وتتفهَم سببَ غضبِه". حضرت إلى القصر في اليوم التالي وأتيتُ للسلامِ عليه ـ رحمه الله وأحسن مثواه ـ نظرَ إلي بغضبٍ قائًلا ": فيصل أنا وثقتُ بكَ وأطلعتُك على ما أفكرُ فيه، وأنتَ تكتبُ الخبرَ وتنشرُهُ "، قلت: " سيدي، لقد كتبت كلماتٍ منَ القلب وددتُ أن أعبرَ بها وأمنتُ عليها لتصلَ يدًا بيدٍ إلى مقامِكم الكريمِ من خلالِ سكرتيركم". قال لي " :ما أسررتُ به لك يجبُ أنْ لا يعرفَ عنه أحدٌ، فهذه ثقةٌ وأمانةٌ بين اثنينِ وأنتَ لم تلتزمْ بها. إياي وإياكَ يجبُ أنْ تحافظَ على السرّ إذا أمُنت عليه، فإذا عرفهُ ثالثٌ لم يعدْ سرًّا".

new.jpg

رحمك اللهُ عبدالله بن عبدالعزيز لقد شرفتَني وكرمتَني وعلمتَني، ولا أنسى تلك الليلةِ الرمضانيةِ المباركةِ، قبلَ الإفطارِ وأنت تنظرُ إلى بيتِ اللهِ العتيقِ وتتحدثُ وسموُّ الأميرِ خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة بجانبكَ ،وكذا أصحابُ السموّ، وبوجودِ الأخِ فيصل بن معمر الأمينِ العامِ لمركزِ الملكِ عبدِ الله العالمي للحوارِ بينَ أتباعِ الأديانِ الذي أسسْتَهُ مؤمنًا برسالتِهِ الإنسانيةِ العالميةِ عندما أشرْتَ إلي قائلًا: "هذا هو أولُ شخصٍ أخبرتُهُ عنْ مركزِ الحوارِ". شرفٌ كبيرٌ يا " ملكَ الحوارِ " ـ يرحمك الله ـ لقد كرمْتَني وشرفْتَني مرة أخرى كما هي عادتُك بقبولِكَ لوحةَ " ملك الحوار " التي لونَّها بمشاعرِهِ الفنانُ ضياء عزيز ضياء، وقدمْتُها محملةً بإيماني برسالتِك ودعوتِك الصادقةِ إلى الإنسانيةِ.

قدرْتَ إيمانِي برسالتِك ، يرحمُك اللهُ، وتقبلْتَها وأمرْتَ بعرضِها أمامَ قادةِ العالمِ الإسلاميّ بمكةَ المكرمةِ في عام ٢٠١٢م بمناسبةِ انعقادِ الدورةِ الرابعةِ لمؤتمرِ القمةِ الإسلاميّ الاستثنائيّ (تعزيز التضامن الإسلامي)، ثم تمّ نقلُ اللوحةِ بعدَ ذلك إلى مركزِ الملكِ عبدالله العالمي للحوارِ بينَ أتباعِ الأديانِ بمدينةِ ڤينا بالنمسا.

new2.jpg
22.jpg

قبلَ أنْ أتركَ ما تحققَ لهُ ـ يرحمه الله ـ بافتتاحِ المركزِ بڤينا، أتذكرُ حماسَه ورغبتَهُ بأنْ يرى ذلك الأملَ يتحققُ فبعدَ كلمتهِ في هيئةِ الأممِ المتحدةِ في نيويورك عندما عرضَ فكرةَ المركزِ ودعا فيها العالمَ قائلاً : " إنَّ الأديانَ التي أرادَ بها اللهُ - عزَ وجلَ - إسعادَ البشرِ لا ينبغي أنْ تكونَ منْ أسبابِ شقائِهم، وأنّ الإنسانَ نظيرُ الإنسانِ وشريكُهُ على هذا الكوكبِ، فإما أنْ يعيشا معًا في سلامٍ وصفاءٍ، أو أنْ ينتهيا بنيرانٍ سُوءِ الفهمِ والحقدِ والكراهيةِ. إنّ التركيزَ عبرَ التاريخِ على نقاطِ الخلافِ بين أتباعِ الأديانِ والثقافات قادَ إلى التعصبِ، وبسببِ ذلك قامتْ حروبٌ مدمرةٌ سالتْ فيها دماءٌ كثيرةٌ لم يكنْ لها مبررٌ من منطقٍ أو فكرٍ سليمٍ. وقد آن الأوانُ لأنْ نتعلمَ منْ دروسِ الماضي القاسيةِ، وأنْ نجتمعَ على الأخلاقِ والمثلِ العليا التي نؤمنُ بها جميعًا، وما نختلفُ عليه سيفصلُ فيه الربُّ- سبحانه وتعالى- يومَ الحسابِ، إنّ كلّ مأساةِ يشهدُها العالمُ اليومَ ناتجةٌ عنِ التخلي عنْ مبدأ عظيمٍ منَ المبادئَ التي نادتْ بها كلُّ الأديانِ والثقافاتِ، فمشاكلُ العالمِ كلُّها لا تعني سوى تنكِّرِ البشرِ لمبدأ العدالةِ. إنَّ الإرهابَ والإجرامَ أعداءُ اللهِ، وأعداءُ كلّ دينٍ وحضارةٍ، وما كانوا ليظهروا لولا غياب مبدأ التسامح، والضياع الذي يلف حياة كثير من الشباب. كما أنَّ المخدراتِ والجريمةِ، لم تنتشرْ إلا بعدَ انهيارِ روابطِ الأسرةِ التي أرادَها اللهُ - عزّ وجلّ - ثابتةً قويةً. إن حوارَنا الذي سيتمُ بطريقةٍ حضاريةٍ كفيلٌ – بإذن الله – بإحياءِ القيمِ الساميةِ، وترسيخِها في نفوسِ الشعوبِ والأممِ. ولا شكّ ـ بإذن الله ـ أن ذلكَ سوف يمثلُ انتصارًا باهرًا لأحسنِ ما في الإنسانِ على أسوأ ما فيه، ويمنحُ الإنسانيةَ الأملَ في مُستقبلٍ يسودُ فيه العدلُ والأمنُ والحياةُ الكريمةُ على الظلمِ والخوفِ والفقرِ". دعا بعد إلقائه كلمته في هيئة الأمم المتحدة عمدة نيويورك اليهودي، ومجموعةً منْ أتباعِ الأديانِ وقابلَهم ليبلغَّهم أهدافَ المركزَ، وما يتطلعُ إليهِ منْ جمعِ الكلمةِ بالحوارِ واحترامِ الرأي الآخرِ. وكان اجتماعًا تاريخيًّا، أتذكرُ النشوةَ والسعادةَ التي كانَ يتحدثُ بها ـ غفرَ الله له وأحسن مثواه ـ وهو يقولُ لنا مُوجهًا حديثَهُ للأميرِ سعود الفيصل ـ رحمه الله ـ: " تشوف يا سعود سبحان الله كيف الناس في الشارع يحيوننا اليوم وهم يرون علمَ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ على السيارةِ مقارنةً بزيارتِنا بعدَ أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر".

24.jpeg

وقد شُرِفتْ "مجموعة الأغر" بقبولِ الملكِ عبدالله ـ يرحمه الله ـ لمقترحِ إقامةِ معرضٍ مُصاحبٍ في هيئةِ الأممِ المتحدةِ، يعرضُ دورَ الحضارةِ الإسلاميةِ بتبنيهاِ ودعمِها لمخترعاتٍ ساهمَ فيها أتباعُ الدياناتِ المختلفةِ لإثراءِ المسيرةِ الإنسانيةِ في معرضِ (١٠٠١) "ألف اختراع واختراع" ليتوافقَ معَ إلقاءِ الملكِ عبدالله كلمتَه مقدماً مقترحَه لإقامةِ مركزِ الملكِ عبدالله العالمي للحوارِ بينَ أتباعِ الأديانِ والثقافاتِ.

25.1.jpg

تشرفتُ بأنْ كانَ لي لقاءٌ في عام ٢٠١٣م، بدعوةٍ كريمةٍ منَ المركزِ الذي سعى إلى تشجيعِ الحوارِ، وتعظيمِ دورِ التعليمِ، وأثرهِ بينَ المجموعاتِ الدينيةِ والثقافيةِ حولَ العالمِ، حيث نظمَّ المركزُمؤتمرَ:(صورة الآخر: التعليم المشترك بين أتباع الأديان والثقافات.. أفضل الممارسات)، إدراكًا لأهميةِ السياساتِ والخبراتِ العمليةِ في مجالِ التعليمِ المشتركِ بين أتباعِ الأديانِ والثقافاتِ، تفعيلًا وتمكينًا وتحفيزًا للحوارِ بينَ القياداتِ الدينيةِ وصانعي السياساتِ.

مركزُ الملكِ عبدالله العالمي للحوارِ بينَ أتباعِ الأديانِ والثقافاتِ (كايسيد)، هي منظمةٌ دوليةٌ تأسستْ عام ٢٠١٢م بمبادرةٍ منَ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ وجمهوريةِ النمسا ومملكةِ إسبانيا إلى جانبِ الڤاتيكان بصفتهِ عضوًا مؤسسًا مراقبًا، في مدينةِ ڤيينا. يسعى المركزُ لدفعِ مسيرةِ الحوارِ والتفاهمِ بين أتباعِ الأديانِ والثقافاتِ المتعددةِ، والعملِ على تعزيزِ ثقافةِ احترامِ التنوعِ، وإرساءِ قواعدِ العدلِ والسلامِ بينَ الأممِ والشعوبِ. ويرى المركزُ أنَّ الدينَ، قوةٌ فاعلةٌ لتعزيزِ ثقافةِ الحوارِ والتعاونِ لتحقيقِ الخيرِ للبشريةِ، حيث يعملُ على معالجةِ التحدياتِ المعاصرةِ التي تواجهُ المجتمعاتِ، بما في ذلكَ التصدي لتبريرِ الاضطهادِ والعنفِ والصراعِ باسمِ الدينِ وتعزيزِ ثقافةِ الحوارِ والعيشِ معًا.يتألفُ مجلسِ إدارةِ المركزِ منْ قياداتٍ دينيةٍ، منَ المسلمين والمسيحيين واليهودِ والبوذيين والهندوسِ. ويُعدُّ المركزُ أولَ مُنظمةٍ دوليَّةٍ تعملُ على تفعيلِ دورِ الأفرادِ والقياداتِ والمؤسساتِ الدينيةِ لمساعدةِ صانعي السياساتِ في بناءِ السلامِ والتعايشِ السلميّ تحت مظلةِ المواطنةِ المشتركةِ، سدًا للفجوةِ بينَ القياداتِ الدينيةِ وصانعي السياساتِ خاصةً في المنظماتِ الدوليّة، وإيجادِ حلولٍ ناجعةٍ، ومُستدامةٍ وتحقيقِ نتائجَ إيجابيةٍ.

كما تشرفتُ عندما كنتُ مسؤوًلا عنْ جمعيةِ الكشافةِ العربيةِ السعوديةِ وسعيتُ ليتحققَ دورُ" رسل السلام " البرنامجِ الكشفي العالميّ الذي دعا إليه و أسسّهُ الملكُ عبدالله بن عبدالعزيز و الملكُ كارل قوستاف ملكُ السويد ودشن في جامعةِ الملكِ عبدالله للعلومِ والتقنيةِ ومدينةِ الملكِ عبدالله الاقتصادية في عام ٢٠١١م ، ليرتبطَ هذا البرنامجُ الإنسانيُّ العالميُّ برسالةِ مركزِ الملكِ عبدالله العالمي للحوارِ بين أتباعِ الأديانِ و الثقافاتِ، بتوقيعِ اتفاقيةِ شراكةٍ يحملُ عبرَها شبابُ العالمِ رسالتَه الإنسانيةَ بالعملِ التطوعيّ منْ خلالِ ثلاثين مليون كشافٍ قاموا إلى الان بأكثرَ منْ بليون وثلاثمائة مليون ساعة عملٍ تطوعيّ. كما كان لي شرفُ تمثيلِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ في منظمةِ اليونيسكو وتقدمتُ بمقترحٍ لتفعيلِ المشاركةِ بينَ شبابِ العالمِ في العملِ التطوعيّ ورسالةِ الحوارِ. وكانَ المؤتمرُ الدوليُّ الأولُ للشبابِ في جدةَ عام ٢٠١٣م تحتَ مظلةِ برنامجِ الملكِ عبدالله لحوارِ الثقافاتِ في المنظمةِ الدوليةِ اليونيسكو. وانتهى المجتمعون منْ شبابِ العالمِ إلى إعلانِ جدة الذي يدعو إلى العملِ التطوعي والحوارِ.

26.3.jpeg
26.4.jpeg
26.2.jpeg
صورة منسف الغترة.png

قبلَ أنْ أنهي أشاركُ ولأولِ مرةٍ بخطابٍ شخصيّ و موقفٍ مؤثرٍ لم يطَّلعْ عليهِ أحدٌ منْ قبلُ سوى عائلتي. فعندما كنتُ أعملُ في الحرسِ الوطنيّ بالقطاعِ الغربيّ شاركْتُ في تأسيسِ"مجموعةِ الأغر" للفكرِ الاستراتيجي وكانتِ الاجتماعاتُ في سكني، وبحكم تواجدي للعملِ في مدينةِ جدةَ واجتماعي بالكثيرِ من أهلِها الأكارمِ، واستماعي ومشاركتي لمنسوبي الحرسِ الوطنيِ منْ مختلفِ القبائلِ، نُقل إلى أسماعِ ـ المغفور له بإذن الله ـ الملك عبدالله أنّ فيصل يجمعُ الناسَ في جلساتٍ حواريةٍ تناقشُ فيها أفكارٌ جريئةٌ و منْ غيرِ المُحبذِ تناولَها، ويجبُ أن ينتبَه لذلكَ. فما كانَ منْهُ ـ يرحمه الله ـ إلا أنْ استدعاني و حاورني بما نما إلى علمِهِ و نبهَّني إلى أنْ هناك منْ يروجُ بعدمِ ملائمةِ هذه الاجتماعاتِ و يعطيها أبعادًا سلبية . فكتبتُ لهُ - رحمه الله - خطابًا شرحتُ فيهِ مشاعري وأهدافَ تشكيلِ مجموعةٍ مستقلةٍ تدرسُ قضايا المجتمعِ وترفعُ توصياتِها للجهاتِ المعنيةِ؛ لتساهمَ في حلّها وتجاوزِ تحدياتِها. وكان ردُّه أسكنَهُ المولى فسيحَ جنانِهِ الذي قالَ فيه: "ولتعلمْ بأنّني لم أعرْ ما قيلَ اهتمامًا، ولكني رغبتُ في إشعارِك بما يقالُ لكي تكونَ حذرًا منْ أمثالِ هؤلاء "، فكم كانَ لثقةِ مقامِهِ بي كبيرُ الأثرِ ، حين قال "وكم وقفت طويلًا أمام قولكِ الذي يستحقُ التقديرَ: " إنَّ مرضاةَ اللهِ قبل كلّ شىءٍ .. والعملَ لمستقبلِ أجيالِ هذا الوطنِ هو الواجبُ في كلّ شيءٍ .. ودعمَ أفكارِكم قيادتِنا الحكيمةِ هو الهدفُ منْ كلّ شيءٍ". رحم اللهُ عبدالله الإنسانَ الشهمَ النبيلَ الذي لا يطلقُ حُكمَهُ إلا بعدَ أنْ يستمع لكلّ الأطرافِ، تطبقيًا لقولِ الحقّ في الآيةِ الكريمةِ المعلقةِ فوق رأسهِ بمجلسهِ " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".

خطاب الملك للأمير فيصل رد على موقف بداية تأسيس مجموعة الأغر.jpg
خطاب الأمير فيصل للملك بداية تأسيس مجموعة الأغر1.jpg
Aubusson Tapestry - KOD.jpeg

وها أنا أتشرفُ اليومَ بالمشاركةِ مع كوكبةٍ منْ رجالِ الفكرِ والتاريخِ والسياسةِ في هذا المحفلِ، خاتمًا كلمتي هذهِ ـ بعدَ الدعاءِ لخادمِ الحرمين الشريفين الملكِ عبد لله بنِ عبدالعزيز بالرحمةِ والمغفرةِ ـ أتقدمُ بالشكرِ أجزلِهِ للقائمين على تنظيمِ هذا المنتدى العلميّ لتناولِ شخصيةٍ عالميةٍ تتمثلُ في الملكِ عبدالله بن عبدالعزيز، منْ آمنَ وعملَ وخدمَ الإسلامَ والمسلمين وحملَ رسالتَه إلى العالمين، أدعو اللهَ أنْ يتقبلَهُ معَ عبادهِ الصالحين ويسكنَه عليين. وإنّهُ ليشرفُني أنْ أطرزَ هذهِ الكلماتِ وأنهيها بتقديمِ عملٍ فنيّ لجداريةِ "ملك الحوار" لتنسجَ ذكراهُ في كلّ خيطٍ منها رمزًا لرسالتهِ الخالدةِ.

عاشَ الملكُ عبدالله مُتبنيًا مبدأَ التفاهمِ بالحُسنى، وعملَ على تقريبِ وجهاتِ النظرِ والنأيّ عن تصعيدِ الخلافاتِ، واضعًا نصبَ عينيهِ أنْ تكونَ مصلحةُ المواطنِ السعوديّ مِحورَ المعادلةِ الأهمّ في كلّ ما سعى إليه، وحملَ همومَ الأمةِ العربيةِ والإسلاميةِ في وجدانهِ رحمَ اللهُ عبدَه عبدالله الذي آمنَ بربّهِ ، وأخلصَ بعملهِ فحملَ لواءَ العروبةِ والإسلامِ محاورًا لحفظِ كرامةِ الإنسانِ ونشرِالسلامِ. وكما أوصانا سيبقى دائمًا في دعائِنا

bottom of page